انتخبت مرشحاً إسلامياً في الجولتين الرئاسيتين. . . وهللت فرحاً حينما انتصر الحق وأعلن مرسي رئيساً للبلاد، لأننا كصحفيين كنا نحسب الأصوات بشكل مستقل، وكنا نعلم أن أكثرية الأصوات ذهبت إليه. تأخر إعلان النتيجة بدعوى فحص الطعون خمسة أيام لم أنم فيها. كنت كغيري من منتخبي مرسي من كل الأطياف، نخشى بعد أن تأخر إعلان النتيجة أن يتم إلغاء أصوات بسبب الطعن عليها. وجاء يوم القسم.
كملايين المصريين شعرت بالفخر بانتخابه عندما فتح صدره في ميدان التحرير، وعندما أزاح المجلس العسكري (رغم ملاحظتي أن ذلك تم بدفعة من الأمريكان). وبعدها بدأ مرسي فى مسار خاطئ واستمر تناقص رصيده عندي.
* * *
١ـ رضي مرسي بعقد تفاهمات مع كبار رموز نظام مبارك من الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال وارتضى صفقة خادعة ألا ضرر ولا ضرار، كان هو فى نهاية الأمر أول ضحاياها. وكان الأجدى أن يشرع في إجراءات عدالة انتقالية تودي بالقتلة والسارقين إلى السجون، أو إلى الاعتراف بالجرائم مقابل الاحتفاظ بالاستثمارات داخل البلاد وبشروط الشفافية وعدم تعارض المصالح.
٢- ارتضى مرسي طريق التبعية للنظام العالمي بتوسيعه دائرة الكويز والجري وراء إرضاء الصندوق والبنك واقترض من الخارج أكثر من أي نظام مضى، بلا خطة وبما يهدد أمن البلاد والعباد.
٣- تجاهل خلق الوظائف وتحسين الصحة والتعليم، الطريق الوحيد لاقتصاد العدالة الاجتماعية.
٤- ما خير بين أمرين أحدهما الإقصاء للحلفاء (بمعنى ثورة أم لا ثورة) إلا واختار الإقصاء مرة بعد مرة بعد مرة. وتبني التخوين والتشهير والحبس للناشطين الثوريين ولم يدافع حتى عمّن سحل أو مات تحت التعذيب في حكمه، بل شكر الشرطة باسماً مؤيداً.
* * *
وهكذا حين نادى المنادي إلى التمرد، (رغم أني رأيت فيه يد المساعدة من أجهزة مبارك النائمة) لم أرها إزاحة له، بل رأيتها بوقاً للتنبيه لتصحيح المسار. قد يخطئ الرئيس لكنه سينتهز الفرصة ليصوب أخطاءه. ولكن هالني خطاب مرسي وجماعته من الإصرار على الغي. فهو لم يتخذها فرصة للتخلص من بعض هذه الرؤوس التي تقوض حكمه والثورة. لكنه اختار أن يستعطفها ويستجديها أن تبقى ويبقى هو أيضاً (أي الإبقاء على نفس التحالف غير الشريف الذي دخل فيه إبان انتخابه من الشعب). ورأيت فى ذلك تأكيداً على خيانته للأمانة. ورغم ذلك، فى ٢٩ يونيو، احتدم صراعي الداخلي، هل أنزل؟
هل أتكاتف مع أجهزة ورجال أعمال فسدة لخلع رئيس منتخب؟ وكان القرار أني سأنزل مع الشعب المصري. لا أهتف لعودة مبارك ولكن أهتف ضد من خانني وخان شعبه، مبارك وعسكر وإخوان. وهالني ما رأيته في اليوم المشهود.
* * *
٣٠ يونيو، الآلاف تنزل من بيوتها لتنضم إلى المئات من المتظاهرين. لا تهتف الحشود المكدسة تحت الشمس ولا المطلة عليها من النوافذ لا لنصرة عز أو صفوت الشريف أو الشرطة أو حتى السيسي. ولكن وللأسباب ذاتها التي نزلت من أجلها. أعمال مرسي السوداء. . . معظمهم انتخبه ضد شفيق. رجعت يومها وكلي أمل في غد لن يصنعه الفلول ولن تصنعه أجهزة مبارك القمعية. بل للمرة الثانية، ويا للروعة، سيصنع الشعب هذا الغد. هذا ما يغير حقا المعادلة. . . قدرة الجماعة الوطنية الواسعة على التمييز والفرز المستمرين.
كان ميدان التحرير يعج بتلك الملايين على قلب واحد هو رحيل مبارك وفى وسط الحشد كان بعض رجالات نظام مبارك يعلون نفس النداء (وإن لأسبابهم في استبعاد وجه تلوث بآخر نظيف لإعادة إنتاج نفس النظام الفاسد المستغل). . . عن ٢٥ يناير أتحدث. ورأيت نفس المشهد يتكرر فى ٣٠ يونيو. الملايين هم الدماء التي سرت فى الشرايين. والدماء تحمل بعض الميكروبات والكثير الكثير من الأجسام المضادة. وتبقى الصورة التى نراها اليوم قريبة من ذلك التشبيه، وتثير أسئلة صعبة.
* * *
في قلب هذه الدماء المتدفقة فى الشرايين، هل تنتصر الميكروبات أم يقوى البدن على المقاومة؟ وكيف يقاوم؟ هل تكون المقاومة ذاتية أم ببعض المقويات؟ وأي نوع من المقويات؟ هكذا هي ثورتنا الشعبية ذات الزخم المتجدد، تصعب علينا دوماً الإجابات والاختيارات من بين خمسمائة درجة من اللون الرمادي. ولكني فى كل الأحوال، أقسم على ما يلي:
لو تكرر الاختيار بين مرسى وشفيق لاخترت مرسى ألف مرة، فلا عودة للوراء.
لو كان أي من المرشحين الرئاسيين الآخر قد فاز مكان مرسي وعقد نفس الصفقات مع نفس النخب (وهو ما اعتقد أنه كان سيحدث مع معظمهم) فاستبعد شعبه ولم يستقو به ضد بقايا نظام يحتضر، لنزلت ضده. فنحن انتخبنا مرشح ثورة، لا مرشح قمع وفساد، كي نستطيع أن نحاسبه شعبياً ومؤسساتياً، أياً من كان. فخطيئة مرسىي الأولى أنه ظن، أنه مدين لتلك البقايا لقبولهم بنتيجة الانتخابات وأنه لا غنى عنهم لدخول دهاليز مؤسسات الدولة. وفي هذا دروس للقادم إن رأى أنه جاء بفضل الجيش وهؤلاء، لا بفضل الشعب.
[عن "الشروق"]